تركيا والعدوان على غزة: من الدبلوماسية الحذرة إلى الصدامية المحسوبة

الثلاثاء 31 تشرين الأول 2023
مظاهرة في اسطنبول دعمًا لفلسطين. في 28 تشرين الأول 2023. تصوير إيمره جوريل. أ ف ب.

المقاربة الأولى: الدبلوماسية الحذرة

حتى 25 تشرين الأول، تبنت تركيا مقاربة رسمية تجاه العدوان على غزة يمكن وصفها بأنها، وعلى عكس تجارب سابقة، غير صدامية. وتركزت على إدانة ما تصفه تركيا باستهداف المدنيين من كلا الطرفين والدعوة إلى الاعتدال وضبط النفس ووقف إطلاق النار. كما وتمحورت حول رؤية الحل السياسي من خلال حل الدولتين باعتباره الطريق الوحيد للسلام الدائم مع تحميل «إسرائيل» المسؤولية السياسية عن الوصول إلى هذه الحالة بسبب استراتيجياتها وسياساتها تجاه الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك، تصاعدت الانتقادات التركية للهجمات الإسرائيلية عبر التأكيد على أنها تتصرف كتنظيم وليس كدولة، لا سيما بسبب خطواتها لعقاب الفلسطينيين بشكل جماعي عبر قطع الماء والكهرباء، الأمر الذي اعتبرته أنقرة مرفوضًا ومخالفًا للقانون الدولي. وفي الوقت نفسه، ركزت هذه المقاربة في مناسبات عدة على رفض استهداف الفلسطينيين بشكل عشوائي للتجمعات الإسرائيلية.

لا يمكن فصل هذه المقاربة التركية، والمختلفة عن مواقف تركيا السابقة، عن تحوّلات السياسة التركية في السنوات الأخيرة، والتي سعت للتطبيع مع المحيط وتصفير المشاكل معه. وضمن هذه السياسة جاء تطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، وتم تبادل السفراء من جديد، والتقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، في نيويورك في أيلول الماضي. كانت دوافع هذا التطبيع الأبرز وبالتالي أحد أهم دوافع المقاربة التركية الأولى من العدوان على غزة، هي قضية تشابك العلاقات التركية الإسرائيلية مع ملفات استراتيجية بالنسبة لتركيا، أبرزها صراع القوى المتشعب في شرق المتوسط ومساعي أنقرة لإقناع تل أبيب بنقل الغاز إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. 

يمكن القول إن أحد أهم دوافع المقاربة غير الصدامية مع «إسرائيل» في البداية كانت التعويل التركي الملحوظ على الاستثمارات الخارجية لا سيما الغربية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.

في الوقت نفسه، كان من اللافت تكرار أردوغان لشعار لا خاسر من سلام عادل، الذي ارتبط بشكل وثيق بمساعيه للوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، ما دفع الكثيرين إلى قناعة بأن المقاربة التركية غير الصدامية شبه المحايدة تسعى بشكل ما لإسقاط المقاربة التركية للحرب الروسية الأوكرانية على العدوان في غزة. فلقد كان من الواضح أن أردوغان يريد البناء على تجربته كوسيط بين روسيا وأوكرانيا، والتي نجح في توظيفها داخليًا وخارجيًا بشكل فعال في الفترة الماضية، من خلال استغلال علاقاته الجيدة مع حماس وعلاقاته الآخذة بالتحسن مع «إسرائيل»، لتقديم موقف متوازن يؤهله للعب دور الوسيط في المنطقة. وبالفعل أشارت عدة دول، بما فيها الولايات المتحدة وألمانيا، إلى أن تركيا واحدة من أبرز الدول المرشحة للوساطة بين الجانبين، بل وأعلن الإعلام التركي أن الرئيس أردوغان بدأ بالفعل تحركات دبلوماسية شملت لقاءات مع ممثلين عن حماس للمساهمة في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة. 

كما يمكن القول إن أحد أهم دوافع المقاربة غير الصدامية مع «إسرائيل» في البداية كانت التعويل التركي الملحوظ على الاستثمارات الخارجية لا سيما الغربية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد. فمن خلال جهود التطبيع مع الإقليم والتهدئة مع دوله والعودة إلى السياسة الاقتصادية التقليدية في الفترة الأخيرة، تحاول تركيا الخروج من الأزمة الحالية، ما يعني أن العودة إلى الصدامية المعهودة مع «إسرائيل» قد تعوق هذه الأهداف خاصة مع اقتراب الانتخابات المحلية العام القادم. 

هذه المقاربة غير الصدامية قسَمَت الشارع التركي إلى قسمين، الأول من الإسلاميين والمحافظين وبعض القوميين في معسكريْ السلطة والمعارضة ممن اعتبروا هذه المقاربة غير كافية وطالبوا مرارًا باتخاذ خطوات أقوى للرد على الجرائم الإسرائيلية، بما في ذلك هتافات البعض المطالبة بذهاب الجيش التركي إلى غزة. أمّا القسم الثاني فكان من العلمانيين وبعض القوميين في المعارضة الذين أكدوا دعمهم لهذه السياسة المتوازنة التي اعتبروا أنها تمنح الأولوية لمصالح تركيا. فمثلًا، اعتبر الحزب الجيد، وهو حزب قومي أقرب للعلمانية، أن العدالة والتنمية تعلّم من أخطاء الماضي، في إشارة إلى سياسات الحكومة السابقة في تطورات مشابهة. لكن رغم هذه المقاربة ودوافعها وحفاظ الحكومة التركية عليها بدرجات مختلفة طوال أكثر من أسبوعين، إلا أنها ومنذ البداية ما كانت لتصمد أمام تدحرج التطورات ميدانيًا في غزة وسياسيًا في تركيا.  

لماذا توجهت تركيا إلى تغيير مقاربتها؟ 

يمكن القول بسهولة إن التحول في المقاربة التركية كان نابعًا من الضغوط الداخلية المتصاعدة التي فرضتها وحشية الهجمات الإسرائيلية على غزة. فمع تصاعد أعداد ضحايا العمليات العسكرية وانتشار مشاهد الدمار تشكلت شريحة تركية واسعة عابرة للمعسكرات السياسية تعارض هذه الهجمات مع مطالبات ملحوظة بموقف تركي أقوى تجاهها.

يمكن القول بسهولة إن التحول في المقاربة التركية كان نابعًا من الضغوط الداخلية المتصاعدة التي فرضتها وحشية الهجمات الإسرائيلية على غزة.

لكن أبرز هذه الضغوط الداخلية كان تصعيد حليف أردوغان الأهم، زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، الذي تبنى تململ الشارع في ملف غزة بأعلى صوت مقدمًا خطابًا صداميًا جدًا إلى حد حديثه عن مهلة تركية لـ«إسرائيل» لمدة 24 ساعة لأجل وقف الهجمات على غزة، التي وصفها بأنها «ميراث الأجداد»، وإلا فإن تركيا يجب أن تتدخل بحكم مسؤوليتها الإنسانية والتاريخية والدينية، ما فسره البعض على أنه دعوة للتدخل العسكري المباشر.

أشارت هذه الدعوات وتكرارها إلى أن شريحة شعبية واسعة، لا سيما داخل تحالف الشعب الحاكم، أصبحت ترى أن الموقف التركي غير الصدامي نسبيًا ليس كافيًا أمام تطورات الأحداث في غزة، الأمر الذي حاولت أحزاب محافظة وقومية مختلفة توظيفه للحشد لصالحها والتأثير على قواعد العدالة والتنمية نفسه عبر تصدير مواقف صدامية وأحيانًا المزايدة على الحكومة بما زاد الضغط على الحزب الحاكم. وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن فصل أجندة الانتخابات المحلية القادمة في آذار المقبل عن هذا التحول في المقاربة التركية، خاصة وأن حالة التضامن التركية في وجه الجرائم الإسرائيلية وضغوط قواعد وحلفاء أردوغان جعلت من المقاربة الصدامية أداة تحشيد سياسي مهمة في الفترة القادمة. إذ قد تخدم هذه المقاربة هدف الحفاظ على تماسك كتلة تحالف الشعب وتوحيدها حول مركز قضية معينة، بل وربما جذب شرائح أخرى لا سيما من المترددين. 

المقاربة الجديدة: الصدامية المحسوبة

فرضت الكلفة الإنسانية المرتفعة للعدوان الإسرائيلي وهول الدمار تحولًا تدريجيًا في مقاربة تركيا الحذرة غير الصدامية نحو تبني مقاربة أكثر صدامية. فكثفت الحكومة التركية، لا سيما أردوغان، الهجوم على «إسرائيل»، عبر التأكيد أن هجماتها تجاوزت حد الدفاع عن النفس وأصبحت مجزرة ضد الإنسانية تستهدف الأطفال والنساء، مع الدعوة المستمرة إلى وقف إطلاق النار. كما انتقد موقف الغرب المنحاز تجاه ما يجري في غزة محذرًا أنه يضرب بعرض الحائط كل القيم التي لطالما تحدث عنها، ويهدد بتحويل الحرب إلى مواجهة بين الهلال والصليب. لكن أهم ملامح المقاربة الجديدة هي عودة أردوغان الصريحة إلى الدفاع عن حركة حماس بوصفها «حركة تحرر وطني ومجموعة مجاهدين يدافعون عن شعبهم وأرضهم» في موقف مضاد للدعاية الإسرائيلية والغربية منذ بداية الحرب. 

ترافق هذا التحول مع تركيز تركيا على سعيها للعب دور في إحلال سلام دائم في المنطقة من خلال صيغة الضامنين الدوليين التي طرحتها منذ بداية العدوان، والتي تحاول من خلالها تقديم نفسها كضامن للشعب الفلسطيني على المستويات الإنسانية والسياسية وحتى العسكرية في إطار عملية سلام سياسية قائمة على أطروحة حل الدولتين. بل وشدد أردوغان مرارًا على مقترح عقد مؤتمر سلام فلسطيني إسرائيلي تشارك فيه دول المنطقة على اعتبار أن السياسات الإسرائيلية الحالية لن تجلب السلام لا للإسرائيليين ولا للفلسطينيين.

رغم الخطاب عالي الصوت خارجيًا وداخليًا، إلا أن المقاربة الجديدة لا تزال أقل حدة من مستوى التأثير الجذري على العلاقات التركية الإسرائيلية، لا سيما اقتصاديًا وربما حتى دبلوماسيًا.

هناك تحول ملحوظ في الخطاب السياسي الرسمي من العدوان على غزة لكن حدة هذا الخطاب الجديد لا تزال في إطار الصدامية المحسوبة، فحتى الآن لم تتخذ تركيا أي خطوات دبلوماسية رسمية ضد «إسرائيل» كما في تجارب سابقة مثل سحب السفير التركي من تل أبيب أو تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية. بل بالعكس، لا تزال تركيا تركز على طرح مقترحات للحل مع حديث دائم عن إمكانية أن تتمخض حرب غزة إمّا عن حرب إقليمية واسعة أو فرصة سلام كبيرة تريد أنقرة أن تلعب دورًا مهمًا فيها. وعلى عكس مرات سابقة، لم يشخصن أردوغان الأزمة مع نتنياهو بشكل مباشر حتى الآن، مع الحفاظ على صداميته في إطار الانتقاد الرسمي والتأكيد على أن الأخير استغل حسن نوايا تركيا. وفي الوقت نفسه، لا توجد إشارات إلى أن الحكومة التركية قد تتجه نحو فرض أي نوع من العقوبات الاقتصادية والتجارية الرسمية، رغم حملات المقاطعة الشعبية، على اعتبار أن العدالة والتنمية لطالما فصل بين السياسة والاقتصاد، الأمر الذي يظهر بوضوح في استمرار العلاقات الاقتصادية حتى في أسوأ فترات العلاقات مع محيطه بما في ذلك «إسرائيل».

وعليه، ورغم الخطاب عالي الصوت خارجيًا وداخليًا، إلا أن المقاربة الجديدة لا تزال أقل حدة من مستوى التأثير الجذري على العلاقات التركية الإسرائيلية، لا سيما اقتصاديًا وربما حتى دبلوماسيًا. لكن ورغم ذلك تضمّن التحول في المقاربة التركية بعض الخطوات العملية، مثل قرارات رسمية بإلغاء زيارة أردوغان إلى «إسرائيل» دون الحديث عن زيارة نتنياهو إلى تركيا التي كان من المفترض أن تحدث أصلًا قبل زيارة أردوغان. وفي الوقت نفسه أشارت وسائل إعلام تركية وأجنبية -دون تأكيد أو نفي رسمي- أن تركيا ألغت زيارة مقررة لوزير الطاقة إلى «إسرائيل» وعلقت خطط التعاون معها في مجال الطاقة، لا سيما نقل الغاز والتنقيب عنه. كما دعا أردوغان وحلفاؤه إلى مظاهرة فلسطين الكبرى التي حشد خلالها حشدًا مليونيَّا لدعم غزة وإدانة «إسرائيل» وفي نفس الوقت للتأكيد على قيادته السياسية لحالة التضامن مع فلسطين في تركيا عقب تبنيه مقاربته الجديدة.

انعكاسات المقاربة الجديدة

يبدو التحدي الأكبر أمام المقاربة التركية الجديدة اقتصادي الطابع. إذ تذكِّر هذه المقاربة بالمواقف السابقة لأردوغان خلال عهد سياسته الصدامية السابق، والتي حاول في الفترة الأخيرة أن يعطي الجمهور في الداخل والخارج انطباعًا أن صفحتها انطوت بالمصالحة مع محيطه. وقد أبدى العديد من المعارضين غضبهم من أن أردوغان يعود إلى أسلوبه السابق، الأمر الذي سيجر البلاد إلى أزمات جديدة ما قد يعطل مهمة الفريق الاقتصادي ويتسبب بإقلاق الأسواق والمستثمرين من جديد وبالتالي تعمق الأزمة الاقتصادية الحالية أكثر، خاصة في ظل الرهان الكبير على الاستثمارات الخارجية. وهنا، ورغم أن المقاربة التركية لا تزال في سياق الصدامية المحسوبة، ودون تأثير على العلاقات الاقتصادية ودون تفجير العلاقات السياسية كما تجارب سابقة إلا أن ذلك قد لا يمنع تأثر صورة التطبيع التركي سلبًا بما قد يعوق الخطوات الاقتصادية الحكومية.

رغم أن المقاربة التركية لا تزال في سياق الصدامية المحسوبة، ودون تأثير على العلاقات الاقتصادية ودون تفجير العلاقات السياسية كما تجارب سابقة، إلا أن ذلك قد لا يمنع تأثر صورة التطبيع التركي سلبًا بما قد يعوق الخطوات الاقتصادية الحكومية.

كما برزت في المعارضة التركية مواقف ترى في هذه المقاربة إحراجًا لتركيا في ملف الحرب على الإرهاب وتهديدًا لأمنها القومي عبر المقارنة بين الموقف التركي من حزب العمال الكردستاني وحماس. وفي نفس الوقت، ركزت بعض التيارات في المعارضة على مهاجمة هذه المقاربة الجديدة عبر التأكيد على أن حماس حركة إرهابية. بل وكما هو الحال في زعيمة الحزب الجيد، مرال أكشنار، التي ساوت بين حماس ونتنياهو بوصفهما إرهابيين، اعتبر البعض أن المقاربة الجديدة تأتي في سياق خلق استقطاب داخلي جديد لأجل الفوز في الانتخابات المقبلة من خلال تحويل غزة إلى نقطة جدل انتخابي لصالح العدالة والتنمية عبر دعاية تبني دعمها ووصم الخصوم بالوقوف ضدها.

خارجيًا أدت المقاربة الجديدة إلى غضب إسرائيلي رسمي واضح خاصة في ظل اعتبار بعض المسؤولين الإسرائيليين أن تصريحات أردوغان عن حماس دعم للإرهاب. بل وأمر وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، بعودة الممثلين الدبلوماسيين من تركيا لإعادة تقييم العلاقات الإسرائيلية التركية. من المتوقع أن تتبنى تل أبيب مقاربة صدامية مضادة ما قد يعني تأزم العلاقات من جديد لكن الحكومة الإسرائيلية لم تتخذ حتى الآن أي خطوات دبلوماسية صدامية من حيث طرد السفير التركي أو تخفيض العلاقات الدبلوماسية ما يعني أنها ملتزمة برد محسوب أيضًا. بيد أن استمرار التوتر بين الجانبين ولو على مستوى التصريحات فقط قد يدفع في لحظة ما إلى تعميق الأزمة بما يعيدهما إلى مربع ما قبل التطبيع الأخير خاصة في ظل استمرار العدوان على غزة.

 كما قد تسبب هذه المقاربة التركية أزمة جديدة بين تركيا والغرب الأمر الذي قد يصعب الأمور على حكومة أردوغان لا سيما في الملف الاقتصادي لكنها لا تزال تمتلك العديد من أوراق الضغط لإدارة ردود الفعل الغربية وتحجيمها، من بينها ملف عضوية السويد في حلف الناتو.

إلى الآن لا تزال المقاربة التركية الجديدة من العدوان الإسرائيلي على غزة مركزة على الخطابة الصدامية عالية الصوت والموجهة أساسًا لدعايات الاستهلاك المحلي، لكن تدحرج الأحداث الميدانية في غزة قد يدفع العلاقات التركية الإسرائيلية نحو الصدام أكثر. لكن هذه الصدامية المحسوبة قد لا تصمد طويلًا في ظل تصاعد العدوان، وبالتالي يمكن القول إن العلاقات التركية الإسرائيلية متجهة نحو توتر متسارع على المستوى الخطابي مع سؤال أساسي هو ما مدى الخطوات الصدامية العملية خاصة دبلوماسيًا واقتصاديًا التي قد يتخذها أي من الطرفين تجاه الآخر؟ 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية